21.7 بناء المنافقين لمسجد الضرار في المدينة:

سلك النبي (صلَّى الله عليه وسلم) مع الذين يتظاهرون بالإسلام طريق الملاينة والإغضاء، يقبل منهم أعذارهم -وهي مختلقة- ويتكرم عن فضحهم وهم يتفلتون من قيود السمع والطاعة، فإذا تلبس أحدهم بخيانة تهدر دمه رغب في التجاوز عنه حتى لا يقال: إن محمداً يقتل أصحابه وما هم في صحبته من شيء، ولكن هكذا سيقول الناس.
ولو أن هؤلاء المنافقين كانوا على قليل من الخير لأسرهم هذا الحلم وانخلعوا من خداعهم الصغير وأقبلوا على الإسلام طيبين خالصين، بيد أن هذا الأسلوب العالي في معاملتهم لم يزدهم على الله ورسوله إلا جرأة، فزاد افتياتهم ورَبتْ شرورهم، ولم يبقَ بد من كشف خبثهم، وإشعار جمهور الأمة بما تنطوي عليه نفوسهم وأعمالهم.
وقد نزلت الآيات أخيراً تندِّد بما فعل ويفعل أولئك المنافقون، وتمزق الأستار التي يتوارون خلفها. وكانت ألاعيبهم قبل "تبوك" وبعدها هي النهاية الحاسمة للسماحة التي مرحوا في سعتها طويلاً ولم يقدِّروها حقَّ قدرها. فأُمِرَ النبي (صلَّى الله عليه وسلم) أن يعلن على الناس ذبذبتهم ونكوصهم، وكُلِّف ألاَّ يقبل منهم وألاَّ يصلِّي عليهم، بل عُرِّف أن استغفاره لهم لن يجاب، ثم طولب المسلمون كافة أن يقطعوهم.
ومن أعجب ما تفتقت عنه حيل المنافقين أن يبنوا مسجداً يلتقون فيه وحدهم، ويمكرون فيه بالإسلام تحت ستار التجمع على العبادة، وقد ذهبوا للرسول قبل رحيله إلى تبوك يقولون له: بنينا مسجداً لذي العلّة والحاجة والليلة المطيرة ونحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه؟ فاعتذر لهم بأنه على جناح سفر وحال شغل. وقال لو قدمنا -إن شاء الله- أتيناكم؛ فصلينا لكم فيه.
فلما آب النبي (صلَّى الله عليه وسلم) بجيشه، وتحرج موقف المنافقين، وانكشفت خباياهم، أرسل اثنين من أصحابه إلى هذا المسجد وأمرهم أن يحرقوه ويهدموه.
وجاء الصاحبان إلى المسجد يحملان الشعل الحارقة وأخذا يأتيان عليه، وفيه أهله الذين فروا مذعورين لمرأى اللهب، يدمر آخر ما شاد النفاق من حيل.
ونزل قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ...}.