20.7 ذكر المخلَّفين عن غزو الروم في غزوة تبوك:

ولما دخل رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) المدينة بدأ بالمسجد، فصلَّى فيه ركعتين ثم جلس للناس، فجاء المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله.
وجاءه "كعب بن مالك" فلما سلّم عليه تبسَّم تبسُّم المغضب؛ ثم قال له:
تعال. قال: فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلَّفك؟ ألم تكن قد ابتعتَ ظهرك؟ فقلت: بلى والله، إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا ، لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلاً، ولكني والله، لقد علمت إن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به علي ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليَّ فيه، إني لأرجو فيه عفو الله عني.
والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك!.
فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم):
أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك، فقمت.
وثار رجال من بني سَلِمة، فاتبعوني يؤنبونني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا. ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) بما اعتذر إليه المخلَّفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) لك. قال: فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي.
ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم رجلان، قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل الذي قيل لك، فقلت: من هما؟ قالوا:
"مرارة بن الربيع العامري" و"هلال بن أمية الواقفي" فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدراً، فيهما أسوة!!.
فمضيت حين ذكروهما لي.
ونهى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) المسلمين عن كلامنا -أيُّها الثلاثة- من بين من تخلّف عنه.
فاجتنبَنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي الأرض، فما هي بالتي أعرف! فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان. وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج أشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إليَّ، وإذا التفت نحوه أعرض عني.
حتى إذا طال عليَّ ذلك من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إليَّ، فسلمت عليه، فوالله ما رد عليَّ السلام! فقلت: يا أبا قتادة أنشدك الله، هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت. فعدت له، فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار.
فبينا أنا أمشي بسوق المدينة ، وإذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلُّ على "كعب بن مالك"؟ فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إلي كتاباً من ملك غسان ، فإذا فيه: أما بعد: فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسِك. فقلت لمّا قرأتها: وهذا أيضاً من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرتها. حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسولُ رسولِ الله (صلَّى الله عليه وسلم) يأتيني فقال: إن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا؟ قال: لا، ولكن اعتزلها ولا تقربها.
وأرسل إلي صاحبيَّ مثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.
فجاءت امرأة هلال بن أمية، فقالت: يا رسول الله: إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال:
لا، ولكن لا يقربك، قالت: إنه -والله- ما به حركة إلى شيء. والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا.
قال "كعب": قال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، وما يدريني ما يقول رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب؟ ولبثت بعد ذلك عشر ليال، حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) عن كلامنا.
فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة على سطح بيت من بيوتنا، وبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى، قد ضاقت عليَّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوْفَى على جبل سَلْع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر!.
فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج من الله.
وآذن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) الناس بتوبة الله علينا حين صلَّى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبيّ مبشرون. وأركض إليَّ رجل فرساً، وسعى ساع من أسْلَم فأوفى على ذروة الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس.
فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما، واستعرت ثوبين فلبستهما، فانطلقت إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، فتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بالتوبة، يقولون: ليهنك توبة الله عليك.
قال كعب: حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) جالس، وحوله الناس فقام إليَّ طلحة بن عبيدالله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، ولست أنساها لطلحة.
فلما سلمت على رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) قال: -وهو يبرق وجهه من السرور-:
أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك، قال: قلت: أهو من عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: لا، بل من عند الله.
وكان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) إذا سرَّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه.
فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال:
أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك.
قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر.
فقلت يا رسول الله إن الله إنّما نجّاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدِّث إلا صدقاً ما بقيت، فو الله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت لرسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) إلى يومي هذا ما أبلاني، والله ما تعمدت بعد ذلك إلى يومي هذا كذباً، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت، فأنزل الله تعالى على رسوله:
{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ}. إلى قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}.
فوالله ما أنعم الله عليّ نعمة قط -بعد أن هداني للإسلام- أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، قال:
{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ}. إلى قوله {فإنَّ الله لا يَرْضى عن القوْم الفاسِقين}.
قال كعب: وكان تخلفنا -أيها الثلاثة- عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله:
{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا}.
وليس الذي ذكر الله مما خلِّفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه.