19.7 غزو المسلمين للروم في معركة تبوك:
عزم النبي أن يرسي
العلائق بين الإسلام والنصرانية على
دعائم مكينة.
وهو لا يقبل مساومة في ترك دعاته
أحراراً يعرضون دينهم على الناس، فإن
راقهم دخلوه وإن ساءهم تركوه.
يجب أن تتاح الفرص المعقولة لإفهام
الجماهير ما تدعى إليه.
أما أن تقطع أعناق الدعاة، وتقام
الأسوار الكثيفة في وجوههم، فهذا ما
يقاومه الإسلام بالقوة.
ثم إن الرومان في الشام والعراق ومصر
وغيرها من البلدان قوم غزاة لا
تربطهم بأهل البلاد الأولين إلا صلات
القهر المادي والأدبي.
فالذي يعترض زحف الإسلام إلى الشمال
يجب أن يسأل نفسه قبل ذلك: لم سكت عن
زحف الرومان إلى الجنوب؟ وعن الطريقة
التي يباشرون بها حكم هذه الأقطار
المغلوبة على أمرها؟.
والمقارنة المنصفة تجعل ما يطلبه
النبي شيئاً لا غبار عليه.
دعوا العقائد المختلفة تبين عن
نفسها، وتجذب الشعوب إليها، أو
تصرفهم عنها..لكن هذا الطلب قوبل
بالرد المسلح .
فلا دولة الروم تفتح أبواب المصيدة
عن الفرائس التي تضطرب داخل جدرانها،
ولا كنيسة الروم ترحب بهذا الجو
الجديد.
قلنا في كتابنا: "التعصب والتسامح
بين المسيحية والإسلام" في صدد
غزوة تبوك:
...والكنيسة لا تطيق أن يعيش بجانبها
رأي يخالف في الفروع التافهة، فكيف
تسمح بالبقاء لدين ينكر سلطة رجالها؟
لأنه لا يرى بين العباد وربهم وسائط،
وينكر عقيدة الفداء التي ترتكز عليها
لأنه يبني الجزاء على عمل الإنسان
وحده.
فليس للإنسان إلا ما سعى، ولا تزر
وازرة وزر أخرى.
ثم هو ينكر مبدأ الشركة في الألوهية،
فليس للعالم إلا رب واحد، يخضع له
عيسى وأمه..
لذلك رأى الروم أن يعيدوا الكرة
فيضربوا الإسلام في شمال الجزيرة
ضربة ترده من حيث جاء، وتوصد عليه
أبواب الحدود فلا يستطيع التسرب منها..
وتضمن الكنيسة بعدئذ انفرادها
بالضمير البشري، حتى إذا قرعت
أجراسها لم يشب رنينها صدى لمؤذن
يهتف بتكبير الله وتوحيده، ويدعو
للصلاة والفلاح.
وترامت إلى النبي في المدينة أنباء
هذا الإعداد الماكر، وتاريخ
النصرانية -منذ تولَّت الحكم- يؤكد
نية العدوان لدى رجال الكهنوت..
فلم ير النبي بداً من استنفار
المسلمين لملاقاة هذا العدوان
المبيت.
والتهيؤ لملاقاة الروم جاء في أيام
قيظ وقحط.
والسير إليهم يتطلب جهداً مضنياً
ونفقة كبيرة.
وقتال الروم ليس صداماً مع قبيلة
محدودة العدد والعدة، بل هو كفاح
مرير مع دولة تبسط سلطانها على جملة
قارات، وتملك موارد ثرَّة من الرجال
والأموال.
على أن أصحاب العقيدة لا ينكصون أمام
الصعاب، والسكوت على تحدي النصارى
لهذا الدين ورغبتهم الملحة في القضاء
عليه يعتبر انتحاراً وبواراً،
فليتحامل المسلمون على أنفسهم إذاً
وليواجهوا مستقبلهم بما يفرض من
تضحيات وتفديات، وللظروف العصيبة
التي اكتنفت إعداد هذا الجيش سمِّي
جيش العسرة.
والآيات التي أنزلها الله في كتابه -متعلقة
بغزوة العسرة- هي أطول ما نزل في قتال
بين المسلمين وخصومهم.
وقد بدأت باستنهاض الهمم لرد هجوم
المسيحية على الإسلام، وإفهام
المسلمين مغبة تقصيرهم في أداء هذه
الفريضة، وإشعارهم بأن الله لا يقبل
ذرة من تفريط في حماية دينه ونصرة
نبيه، وإن التراجع أمام الصعوبات
الحائلة -دون قتال الروم- يعتبر مزلقة
إلى الردة والنفاق.
{يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا
قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى
الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ
بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ
الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي
الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيل. ٌإِلَّا
تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا
غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ
شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
ومضت الآيات تتحدث في صرامة وعنف،
ففضحت المنافقين، وكشفت عن
المترددين. وأهانت طلاب الدَّعة
والراحة، الذين آثروا ظلَّ القعود في
بيوتهم وحقولهم، على حر الصحراء،
ووعثاء السفر، ومتاعب الجلاد.
{فَرِحَ
الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ
خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا
أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي
الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ
أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا
يَفْقَهُونَ}.
وأنباء جيش العسرة تفيض بها صفحات
طوال من سورة التوبة.
ولعل من البيِّن في أسلوب القرآن وهو
يصف هذا الجهاد، أنه لم تأخذه هوادة
في التنويه بمن اشتركوا فيه،
والتنديد بمن تخلفوا عنه، ولا عجب،
فتحديد موقف الإسلام من النصرانية،
هو بَتٌّ في مستقبل الدين كله إلى
الأبد.
فإما ثبت المسلمون أمام لدد الكنيسة
المتعصبة، وإما أحرقتهم نارها فلم
يبق لدينهم أثر.
وكان لهذا الحزم أطيب النتائج، فخرج
المسلمون في تعبئة لم يخرجوا من قبل
في مثلها، وانطلقوا صوب الشمال حيث
تربض جيوش الروم...".
وتجلت -في هذا الإعداد- طوايا النفوس،
ومقدار ما استودعت من قبل من إخلاص
وسماحة ونشاط، فهناك أغنياء أخرجوا
ثرواتهم لتجهيز الجيش وإمداده
بحاجته من الرواحل والسلاح والخيل،
منهم "عثمان بن عفان" الذي سبق
في بذله سبقاً بعيداً، حتى إن الرسول
عجب من كثرة ما أنفق، وقال: "اللهم
ارض عن عثمان فإني عنه راض".
ومنهم الفقراء الذين شاقهم الجود
بأنفسهم في سبيل الله ثم أعجزتهم
الوسائل التي تبلغهم الميدان
فسحَّتْ أعينهم الدمع لهذا الحرمان.
روي عن علبة بن زيد أنه قام من الليل
يصلي، فتهجد ما شاء الله ثم بكى وقال:
اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغَّبت فيه،
ثم لم تجعل عندي ما أتقوَّى به، ولم
تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه..
وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة
أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض...
وأصبح الرجل -على عادته- مع الناس
فقال رسول الله: أين المتصدق هذه
الليلة؟ فلم
يقم أحد، ثم قال: أين المتصدق؟
فليقم، فقام
إليه فأخبره. فقال رسول الله: "أبشر،
فو الذي نفسي بيده لقد كتبت في الزكاة
المتقبلة".
وهناك أهل الريبة الذين يلتمسون
للفرار الأعذار، وتقعد بهم كراهيتهم
للإسلام عن إسداء أي عون له، فهيهات
أن يُعدوا للخروج عدة، أو يتمنوا
للخارجين عوْداً.
ومن أسخف الأعذار التي تمحلها أولئك
القاعدون المنافقون ما قال الجدُّ بن
قيس للنبي -وقد عرض عليه الجهاد-: يا
رسول الله أوَ تأذن لي ولا تفتني؟ فو
الله لو عرف قومي أنه ما من رجل بأشد
عجباً بالنساء مني، وإني أخشى إن
رأيت نساء بني الأصفر "الروم"
ألا أصبر.
فأعرض عنه رسول الله وفيه نزلت الآية:
{وَمِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا
تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ
سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ
لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}.
وهناك الذين فترت -أول الأمر- هممهم،
فلما جدَّ الرحيل وانطلق الجيش،
أحسوا خطر التخلف على إيمانهم فنهضوا
يدركون ما يوشك أن يفوتهم. فمنهم "أبو
خيثمة" عاد يوماً إلى أهله -بعد
مسير النبي وصحبه- وكان اليوم
قائظاً، فوجد امرأتيه كلتيهما، قد
أعدتا له الطعام الشهي والماء البارد
الروِيَّ، ووجد مسكنه مبللاً رطباً،
وسط بستانه الذي أخذ بُسرُهُ الأحمر
ينضج ويسودُّ. فاستيقظ ضمير الرجل،
وقال: رسول الله في الشمس والريح
والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد؟ وطعام
مهيأ؟ وامرأة حسناء في ماله مقيم؟
والله ما هذا بالنَّصَف.!
ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة
منكما حتى ألحق برسول الله، فهيئا لي
زاداً، ففعلتا، ثم قدم ناضحه فارتحله.
وأسرع الرجل المؤمن يطلب رسول الله
حتى أدركه حين نزل تبوك .
وعانى الجيش الذاهب إلى تبوك مصاعب
ثقيلة. روى الإمام أحمد في تفسير قول
الله عز وجل: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ
عَلَى النَّبِيِّ
وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ
الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ
الْعُسْرَةِ}؛ قال: خرجوا في غزوة "تبوك" الرجلان
والثلاثة على بعير واحد، وخرجوا في
حر شديد، وأصابهم عطش، حتى جعلوا
ينحرون إبلهم لينفضوا أكراشها،
ويشربوا ماءها، فكان ذلك عسرة في
الماء، وعسرة في النفقة، وعسرة في
الظهر.
وعن عبدالله بن عباس أنه قيل لعمر بن
الخطاب: حدثنا عن شأن ساعة العسرة
فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ
شديد، فنزلنا منزلاً وأصابنا فيه عطش
حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن
الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه
فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده،
فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله،
إن الله عوَّدك في الدعاء خيراً فادع
الله لنا! فقال: أو تحب ذلك؟ قال: نعم، فرفع
رسول الله يديه إلى السماء فلم
يرجعهما حتى قالت السماء -أي آذنت
بمطر- فأطلت، ثم سكبت فملأوا ما معهم
ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت
العسكر.
قال ابن إسحاق: وكان في الجيش رجل
منافق فقالوا: ويحك هل بعد هذا من
شيء؟ فقال: سحابة مارة!.
وفي الطريق مرَّ المسلمون بالديار
التي كانت ثمود تسكنها، وهي أطلال
هامدة وآثار بقيت تذكر بغضب الله على
من كذبوا رسله وتعجلوا عقابه، فقال
رسول الله: "لا تدخلوا مساكن
الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا
باكين أن يصيبكم ما أصابهم".
والظاهر أن النبي يريد ألا يغفل
المسلمون عن مواطن العظة، وألا
يستهينوا بما خلا قبلهم من مثلات،
فإن المرء لو قُيِّض له أن يزور
السجون، ويشهد مثلا غرفة الإعدام؛
فليس يليق أن ينظر إلى حبل المشنقة
وهو شارد أو ضاحك، لا أقل من بعض
الأسى لأحوال المجرمين ومصارعهم!.
وروى أحمد عن جابر: لما مر النبي
بالحجر قال: لا تسألوا الآيات -خوارق
العادات- فقد سألها قوم صالح، فبعث
الله لهم ناقة، فكانت ترد من هذا الفج
وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم
فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يوماً
ويشربون لبنها يوماً، فأخذتهم صيحة
أهمد الله بها من تحت أديم السماء
منهم"..
والنهي عن سؤال الآيات عود بالناس
إلى الأحوال المألوفة، إذ لا جدوى في
الخروج عليها وخير للسائلين أن
يبذلوا طاقتهم في أداء ما يكلفون به،
وأن يرققوا قلوبهم حتى تلين لأمر
الله.
فإن من قبلهم شهد العجائب، ثم أغرتهم
قسوة القلب بازدرائها، فحاقت بهم
اللعنة.
وبلغ المسلمون "تبوك" فلم يجدوا بها
كيداً، أو يواجهوا عدواً، ولابد أن
الروم آثروا الاختفاء داخل حدودهم عن
ملاقاة هذه القوة الفتية.
وصالح النبي متنصرة العرب الضاربين
في هذه الأرجاء. فدخل في عهده أهل "أيلة"
و"أذرح"
و"تيماء"
و"دومة
الجندل"، وأيقنت القبائل التي
تعمل لحساب الرومان أن اعتمادها على
سادتها الأقدمين قد فات أوانه.
وغزوة تبوك تشبه غزوة الأحزاب، فإن
بلاء المسلمين أولها كان شديداً، ثم
جاء ختامها طمأنينة وعزة، ومكث
الرسول هنالك بضعة عشر يوماً، يمد
بصره وراء الصحراء حيث اختفى
الرومان، يرقب منهم حركة، فلما رأى
القوم قابعين مستكينين، قرر أن يقفل
عائداً إلى المدينة موفوراً منصوراً.
وقدم رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)
المدينة ، ولاحت له معالمها من بعيد.
فقال: هذه طابة! وهذا "أحد"
جبل يحبنا ونحبه! وتسامع الناس بمقدمه
فخرج النساء والصبيان والولائد يقلن:
طلع البدر علينا
من ثنيّات الوداع |
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع |
لقد قوبل جيش
العسرة في مرجعه هذا بحفاوة بالغة.
إنه أكبر جيش خرج مع رسول الله، إذ
وصل تعداده نحو الثلاثين ألفاً، ولم
ينس النبي في ذهابه وإيابه أصحاب
القلوب الكبيرة الذين صعب عليهم أن
يجاهدوا معه فتخلفوا راغمين
والعبرات تملأ عيونهم. عن أنس بن مالك:
أن رسول الله رجع من غزوة تبوك ، فدنا
من المدينة فقال: "إن بالمدينة
أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم
وادياً إلا كانوا معكم!! فقالوا: يا رسول الله، وهم
بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حبسهم
العذر!.
بهذه المواساة الرقيقة كرّم النبي
الرجال الذين شيَّعوه بقلوبهم وهو
ينطلق إلى الروم فأصلح بالهم وأزاح
هماً ثقيلاً عن أفئدتهم.
أما المنافقون من مؤملي الشر ودعاة
الهزيمة، والأعراب الذين اعتبروا
الإسلام نكبة حلّت بهم؛ فهم يتربصون
الدوائر بأهله! أما هؤلاء وأولئك
فأمامهم عناء طويل.